الحرية اسمها أنسي - عبد المنعم رمضان | القصيدة.كوم

كتبت عام: 2019


568



الحرية اسمها أنسي



القدر الإنساني، إذا كنت محظوظا، سيكافئك بأن تظل على حلم، كأن تعيش في مكان وتهيم به، وتتعلق بمكان آخر وتشتهيه، ولقد أحببت القاهرة، مدينتي، ومدينتهم، ورفستها بقدمي، وحلمت ببيروت، مدينتهم ومدينتي، واشتهيتها بقلبي، وتصادف أن بيروت الستينيات، كانت أرض اليوتوبيا، في تلك الفترة حبستنا السلطة المصرية الحاكمة، وأنشأت حولنا أسواراً تمنع دخول الكتب والمجلات المعادية لها، ولمّا سقطت الأسوار في بداية السبعينيات، وشاع الانفتاح، وتسرب إلينا الصالح والطالح، ورفعت السلطة الحظر عن مطبوعات جماعة شعر، كنت أيامها طالبا بالجامعة، وكنت في كل نهار أتلمّظ قبل أن يملأني الشيوعيون والناصريون والإسلاميون بالأسئلة المصابة بالنشاط والوخم، وقبل أن أصادف بعض الوجوديين فيملأونني بالأسئلة المصابة بالمسؤولية والالتزام، ولمّا أصل إلى الليل أو يصلني، أكتشف أنني أفرغت جيوبي وأصبحت خاليًا إلا من نفسي، وكنت أيامها أعبد نفسي، أعبدها بسذاجة وتهور، كأنني لن أقابل فيما بعد أنسي الحاج وشوقي أبو شقرا، هذه الحال تغيرت عندما التقيت باثنين، أدونيس ومحمد خلّاف، الأول هو الذي تعرفونه، والثاني هو الشخص المجهول الضائع في كل مسرحية، الثاني كان زميلي، وكان مفتونا بأدونيس، وعن طريق أدونيس، وطريق خلاّف أيضا، تعرفت على العائلة كلها، على خالدة سعيد ويوسف الخال وفؤاد رفقه وعصام محفوظ وتوفيق صايغ ومحمد الماغوط وتعرفت على شوقي أبو شقرا، وعلى أنسي الحاج، كنا في السبعينيات، وكان أنسي قد أصدر أربعة دواوين، أولها (لن)، وآخرها (ماذا صنعت بالذهب، ماذا فعلت بالوردة)، الغريب أنني قرأت الدواوين الأربعة حسب ترتيب صدورها، هكذا مصادفة ودون قصد، الثلاثة الأُول تغنّت بالعفة والكبت، والأخير شفافيته جاوزت الحواس، الأربعة حققوا تمييز أنسي بين الإيقاع المنظوم والإيقاع المنثور، وكان قد هجر الأول، الأصح لم يقربه قط، ولاحق الثاني، لأنه أدرك أنه لا بد من الإيقاع، وأن كليهما، الإيقاع والشعر، ينبع من روح الآخر، ولا معنى لكتابة، أية كتابة، دون إيقاع، أمّا القافية فقد انقلبت عنده إلى صدمة ودهشة ومفاجأة، في خاتمة (لن)، يكتب أنسي: نحن في زمن السرطان: هذا ما أقوله ويضحك الجميع: نحن في زمن السرطان: هنا، وفي الداخل. الفن إما يجاري أو يموت. لقد جارى، والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد: حين نقول رامبو نشير إلى عائلة من المرضى. قصيدة النثر بنْثُ هذه العائلة. نحن في زمن السرطان: نثرًا وشعراً وكل شيء. قصيدة النثر خليقة هذا الزمن، حليفته، ومصيره. انتهى كلام أنسي، المثير للدهشة، هو إهداء الديوان، ذلك الإهداء البتوليّ الخجول، (إلى زوجتي)، في تلك الأيام اتسعت روحي وانفتح عالمي، أدونيس كان أبي، الذي لم أفكر في قتله، لأنه بيده اليسرى شدّ على يدي اليمنى وأصبح أخي، أما أنسي فمنذ اللحظة الأولى، ومنذ لن، ومنذ إلى زوجتي، أصبح أخي، حتى أنني استمتعت بالتوافقات التي غمرتني بعد قراءته، فشعره الذي استفزّ المصربين: عبد القادر القط ورجاء النقاش وأحمد عبد المعطي حجازي، واللبناني المصري فيما بعد، إلياس سحاب، جعلني أنفجر بالبهجة لأنه استفزهم، كان رجاء يقول بثقة واعتداد، إنه، يعني أنسي، لا يريد سوى الخراب والهدم الكامل للعالم الذي يعيش فيه، أفكاره تفوح برائحة وحشية تنبع من نفسية قاتمة لا ترى أمامها إلا القبح والحرائق والدمار والعفن، وكنت أضحك، وتنقسم نفسي إلى نفوس كثيرة، أقودها، وأهتف فيها، يعيش الخراب والدمار، وتردّد النفوس الكثيرة، يعيش يعيش، تعيش الوحشية والعفن، يعيش يعيش، ثم أتهلل، ولما اعترفت لنفسي أنني أحب فيروز، ولا أكره أم كلثوم، رأيتني أقترب من أنسي، كان يهمس في أذني، عندما تخون مرة ستبقى خائنًا إلى الأبد، بعدها اعترفت بأنني أحب حميمية نضال الأشقر أكثر من شعبوية سميحة أيوب، ووجدتني أقف إلى جوار أنسي تماماً، ليهمس ثانية، لا أؤيد الديمقراطية في الفن، لا أؤيد المساواة ، فتجاسرت واندفعت ورفعت أقدار ليلى بعلبكي وحنان الشيخ وهدى بركات لتكون أعلى كثيرا من أقدار لطيفة الزيات ونوال السعداوي وأخريات، عند ذلك لاصقت أنسي، ولمّا هدأتُ وشوشتُ نفسي، الشغف بالفن يعيد خلقنا ونعيد خلقه، وشوشتها ثانية، إنني أحب نادية تويني وأكتفي بالإعجاب بجويس منصور، ثم جهرتُ بوشوشتي، ثم قلتها عالياً، وكان أنسي سنة 1967 شارك تويني في كتابة حوارية (كم هو مر ولذيذ طعم الحرب في فمي) مثلما شارك شوقي أبو شقرا في حوارية أخرى (أين كنت يا سيدي في الحرب)، أيامها كانت القاهرة الواقع والشعار والكل في واحد والخوف من الحرية، وكانت بيروت الحلم والشعر والكل في الكل واللعب مع الحرية، ومثلها كانت فيروز ونضال وتويني وحنان وشوقي أبو شقرا وأنسي، قراءاتي الأولى لأنسي اختبرتني، وعلمتني أنّ الشاعر أمام الواقع محض عاشق فاشل، الشاعر والواقع مجرّتان، تبعد الواحدة عن الأخرى فراسخ أطول مما نظن، علمتني ثانية أن التاريخ أيضا واقع فوق الواقع، علمتني ثالثًا، أن الصمت عن الواقع شهادة وجدان، وأنه إِمّا خوف وإمّا خيانة، كانت مقدمة (لن) تحجزني بعض الوقت عن الوصول إلى (لن)، وكانت (لن) تحجزني بعض الوقت عن الوصول إلى (الرأس المقطوع)، والرأس يحجزني عن (ماضي الأيام الآتية)، الذي يحجزني بعض الوقت عن (ماذا صنعت بالذهب)، وكنت عند كل انتقال أحتاج إلى شهيق أعمق من شهيقي، وإلى زفير أعنف من زفيري، كائنات (لن) وموجوداته وأشياؤه السابحة في قصائده، لا أسماء لها، لأنها تستعصي على التسمية، كأن التسمية، أية تسمية، ستحيطها بالنجاسة والطهارة، فيما هي مكتفية بلا نهائية وجودها، فيما هي مكتفية بهيوليتها، منذ (ماذا صنعت بالذهب)، وبصورة أوضح منذ (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) يتخفف أنسي ويغادر سفينته العاتية التي اختار مكانها في وسط المحيط كي لا تتيح له رؤية قرائه، غادر السفينة إلى قارب مطاطي كبير، أتاح له الرؤية والتواصل، أتاح له النظر بتحديق وإمعان، حكت لي إحدى صديقات أنسي وصديقاتي أنه في فترته الأولى أيام (لن) كان يرتدي ملابس داكنة، بدلة سوداء، وربطة عنق حمراء وغير سوية ومدعوكة، صدره مغطَى بقميصه وخجله، الملابس لها هيئة الملابس العتيقة، والحذاء أيضا كان أسود وتقليديا، كذلك كان شريطه أسود، ولحيته تكسو خديه، وخجله الظاهر يكسو جسمه كله، جسمه الذي كان نحيلًا كأنه راهب في ملابس أفرنجية، لكنه منذ الرسولة أصبح حريصًا على أناقته، بنطلوناته زرقاء فاتحة أو غير زرقاء فاتحة، قمصانه غالية ومفتوحة الصدر حيث سلسلة ذهبية تتدلّى، الحذاء حديث ولامع واللحية مهذبة مشذبة خفيفة ولا تملأ الوجه كله، لا تخفي وسامته، الخجل تراجع، ربما اختفى، كأنه راهب منبوذ، حينذاك رجعت إلى فوتوغرافيا جماعة شعر، عموما، ملابسه القديمة منذ (لن) كانت تشبه سفينته العاتية وعليهما، الملابس والسفينة، ترتفع لافتة القطيعة، ومنذ (الرسولة) أصبحت الملابس الجديدة على غرار قاربه المطاطي، وعليهما، الملابس والقارب، ترتفع لافتة التواصل، السفينة كانت تمتلئ برياح تدوّم، لعلها رياح الحب، والقارب منفوخ بهواء أبيض يشبه هواء الغزل، قبل الرسولة كان الحب، وبعدها كان الغزل، قبلها كانت السيادة للداخل، بعدها انتفش الخارج، هكذا أرشدتني خالدة، إن فتنة الحب الآسرة، أعقبتها فتنة الغزل الآسر، في سنة 2005 التقيت أنسي في مرسم الفنانة نجاح طاهر بالحمراء، لم يكن ملتحياً، كانت هالة النبي بمسوح الرجل الناضج، تحل محل هالة النبي بمسوح الطفل، اللذين كانهما، في أول قراءاتي لأنسي، قلت لنفسي، ثقافة الجماعة، الثقافة الوطنية المؤمنة جداً، ثقافة الملائكة، أو بلغة أخرى ثقافة الجنة، تحتاج دائما كي لا تموت، تحتاج إلى النبي المسلّح. النبي الشيطان، الذي يربك الملائكة، ويفتن الجماعة، ويخرج بالجميع من الجنة، وثقافتنا الشعرية كانت توشك أن تموت على أيدي السادة الملتزمين، وكان أنسي أحد الأبالسة الضروريين لإعادة بعثها، لإنقاذها من الموت، ترجمات أنسي المبكرة لشعر أنطونان آرتو، أغرت البعض بالزعم أنه كان الشيطان الذي يشبه شياطين الدادائيين والسرياليين، زامله منذ البداية الشاعران محمد الماغوط وتوفيق صايغ، رحلة أنسي بدأت هكذا، السفر في أقاليم العتمة، السفر في الليل، السفر إلى الجحيم، السفر داخل أنسي، حتى صوره الشعرية كانت تنشع من الداخل، حتى لغته كانت تتهشم وتبتكر لتنشع هي الأخرى من الداخل، كأنه يعمل من أجل الذهاب بعيدًا عن ماضي اللغة، عن تاريخها، عن سياقاتها المألوفة، لغة (لن) لغة عمياء، لا تقصد ولا تبوح ولا تعني ولا تدل، إنها فقط تكون، وعندما تكون، نحسُّ أننا لم نسمعها من قبل لم نرها من قبل، لم ننطقها من قبل، اللغة هنا ترفض أن تكون مرآة أو آلة أو أداة، إنها الشيء ذاته، والفعل ذاته، زميلاه كانا فاتنين بتفاوت، ولكنهما كانا أقل جذرية بتفاوت أيضا، فالماغوط شاعر محافظ إذا قارناه بأنسي، لذا مال إليه الشعراء المغنّون الكبار، ومدحوه، وتفادوا به تهمة معاداة قصيدة النثر، هكذا فعل محمود درويش، فوضى أنسي أعمق من فوضاهما (الماغوط وصايغ)، وهزيمة الماغوط كانت الأسرع، فمنذ ديوانه الثالث، خرج من فتنته بالفعل، إلى فتنته بالقوة، المسافة بين شعر أنسي ومقالاته تشبه المسافة المفقودة، حتى كأنهما النار وحجر النار، لم يأبه أنسي بالتنظير حول النوع، فيقينه وبقيني أنه لا ديمومة في التنظير، وأن كتابة النوع، والكتابة الخارجة على النوع، والكتابة العابرة للنوع، كلها كتابات معيارية، فيما كتابة أنسي، شعراً ومقالات، تتأسس وتتشكل على صورتها ومثالها هي بالذات، وبعد أن يفرغ أنسي من تدمير المثال العام، ينشغل بتدمير المسافة، يدمر المسافة مرة بينه وبين قارئه، ومرة بين ظاهر لغته وباطنها، ومرة بين معناها ومبناها، ومرة بين شعره ونثره، ومرة بين كتابته وأخلاقه، المعتاد هو إقامة المسافة من أجل إقامة الوضوح، غير المعتاد هو إقالة المسافة من أجل إزالة الوضوح، أملاً في الاحتفال بغموض بطعم الخوف والمجهول والضياع، بطعم الحياة، هكذا يظل الشاعر طفلاً، هكذا يظل وحيداً، رافقت بعض شعراء تأثروا بأنسي ومشوا خلفه، في البداية أدهشتهم وحدته، ثم لم يحتملوها لأنها سرعان ما أفزعتهم، أغلب هؤلاء حاولوا ترويضه في أثناء قراءتهم له، أغلبهم ابتعد لأن قصائده، أعنى أنسي، لم ترغب في المشي فوق رمل الصحراء، لم ترغب في البداوة، حيث الآثار الواضحة التي يستهدى بها قصاصو الأثر، قصائده رغبت في المشي على ماء البحر، لتغيّره دون أن تكشف عن أثره، ذات مرة، ذات مرات، حاولت تفكيك أنسي، ولكنني فشلت، فانصرفت إلى محاولة أخرى، أن أرجع إلى السهم لأرتقيه، وأن أفرش على روحي القصائد والمقالات الأدبية، وأن أتناوم، سمعته يقول لي بأن العرب كُتّاب مقال أكثر من أي شيء آخر، العرب لم يصلوا في الرواية إلى قرب سدرة المنتهى، باستثناء نجيب محفوظ، لأنه خالط الأعراق، المدهش أن البعض يزعم أن الرواية مختصر الأدب عند العرب، وهؤلاء بيضتهم لم تفقس بعد، كنت في أثناء سماعي له، أفكر في مقالات المازني ويحيى حقي، وأفكر في مقالاته هو نفسه، لكنه فاجأني وسألني عن طه حسين، ثم قال: طلبتَ مني أن أحكي كلمة، إذن سأحكي، كان طه يسخر من الشاعر قيس بن الملوح، مجنون ليلى، ويُضحكُ قراءه، فهو لم يعرف عاشقاً أُغمي عليه كما أُغمي على قيس، لم يعرف عاشقاً شهق وزفر كما شهق قيس وكما زفر، لم يعرف عاشقاً كان يقضي أكثر حياته ساقطاً على وجهه مغشياً عليه مثلما قضى قيس حياته، يرى طه أن قصة المجنون أشد القصص سخفاً وأخلاها من المغزى النافع والمعنى المفيد، مع ضرورة التشديد على الأخيرين، المغزى والمعنى، والحق الحق أقول أقول لك لك، إن طه لم يفهم البعد السحري في الشعر، غلبته طبيعته الفولتيرية الهازئة، ولم تؤهله للتعامل مع الشعر والشاعرية إلا في نطاق الوعي الجراحي، طه لم يدرك أن المخيلة البشرية تصدّق الشعراء ولا تحب جرّاحيهم، تصدّق قصة قيس بن الملوح، ولا تحب وعي طه التاريخي، جميع الفنون شرطها التغريب، التغريب الساحر، أكثر من التغريب الساخر، تغريب رامبو وبودلير، وليس تغريب فولتير وموليير، قبل أن ينهي جملته كنت أسمع باستغراب صوت تفتيح الأبواب، وهو الصوت الذي رافقني دائماً وأنا أقرأ قصائده، لا تزال قصائد (لن) وما تبعه هي المقدمة الأصلح لمعرفة أنسي، فهي أمارته على أن الشعر توق إلى الحب، والحب توق إلى مزيد من الحب، والمزيد توق إلى المستحيل من الحب، وعلى حافة المستحيل وعند نهاية قصائد (لن)، عند آخر سطرين في الديوان، نسمع أنسي بصوت يشبه خاتمة الكريشندو، أغرق أو أحلق، أو أنام، لا وجهة لا وجهة، أسرطن العافية، أهتك الستر عن غد السرطان.

حرية.




هذه المقالة مقتبسة من كتاب "الشهيق والزفير - مريض بالشعر" لعبد المنعم رمضان - فصل: الحرية اسمها أنسي




الآراء (0)