من رؤيا فوكاي - بدر شاكر السياب | القصيدة.كوم

شاعر عراقي من أكثر الشعراء العرب تأثيراً في العصر الحديث، يعتبر من رواد شعر التفعيلة في الأدب العربي (1926-1964)


660 | 0 | 0 | 0




فوكاي: كاتب في البعثة اليسوعية في هيروشيما، جُنَّ من هول ما شاهده غداة ضُربت بالقنبلة الذرية.

***
(١)
هياي … كونغاي، كونغاي١

ما زال ناقوس أبيك يقلق المساء
بأفجع الرثاء:
"هياي … كونغاي، كونغاي"
فيَفزع الصغارُ في الدروب
وتخفق القلوب
وتغلق الدور ببكِّين وشنغهاي
من رجع كونغاي، كونغاي!
فلتُحرَقي وطفلك الوليد
ليُجمع الحديد بالحديد
والفحم والنُّحَاس بالنُّضَار
والعالم القديم بالجديد
آلهة الحديد والنحاس والدمار
أبوك رائد المحيط، نام في القرار
من مقلتيه لؤلؤٌ يبيعه التجار٢
وحظك الدموع والمحار
وعاصف عاتٍ من الرصاص والحديد
وذلك المجلجل المرنُّ من بعيد
لمن، لِمَنْ يدق: "كونغاي، كونغاي"؟
أهم بالرحيل في "غرناطة" الغجر؟
فاخضرت الرياح، والغدير، والقمر؟٣
أم سمر المسيح بالصليب فانتصر
وأنبتت دماؤه الورود في الصخر؟
أم أنها دماء كونغاي؟
ورغم أن العالم استسرَّ واندثر،٤
ما زال طائر الحديد يذرع السماء
وفي قرارة المحيط يعقد الكرى
أهداف طفلك اليتيم، حيث لا غناء
إلا صراخ "البابيون": "زادك الثرى
فازحف على الأربع فالحضيض والعلاء
سيان، والحياة كالفناء!"
سيان "جنكيز"، و"كونغاي"
هابيل قابيل، وبابلٌ كشنغهاي
وليست الفضة كالحديد
هياي كونغاي، كونغاي!
الصين حقل شاي
وسوق شنغهاي
يعج بالمزارعين قبل كل عيد
هياي … كونغاي، كونغاي!

(٢)
تسديد الحساب

تلك الرواسي كم انحط النهار على
أقصى ذراها، وكم مرت بها الظلم
فما فرِحن بآلاف الشموس، ولا
من ألف نجمٍ تردَّى مسَّها ألم
صماء، بكماء، لم تأخذ، ولا هبت
ولا ترصدها موت ولا هرم
لو أودع الله إياها أمانته
لنالهنَّ على استيداعها ندم
ولَاقْتَسَمْنَ مع الأحياء ما دفعت
من جزيةٍ لا تُوفَّى حين تُقتسم
عن كل قهقهةٍ من صرخةٍ ثمنٌ
وما استجد دمٌ إلا وضاع دم
وما تحمل آلام المخاض ولم
يقرب من النور إلا الفكر والرحم
وإن يكن أسعد الأحياء أكملها
فإنما هو أشقاهن لا جرم؟
«قابيل» باقٍ، وإن صارت حجارته
سيفًا، وإن عاد نارًا سيفه الخذِم
ورد «هابيل» ما قاضاه بارئه
عن خلقه، ثم ردت باسمه الأمم
واليوم، في حين وفَّى الدينَ غارمُه
إلا بقايا وكادت تخلص الذمم
وكاد يُرجع للدنيا بشاشتها
ما قربته الضحايا وهي تبتسم
مشى على الأرض خلقٌ عاش في دمه
من وحشها في المخاض الأول الضرم
خلق تراءى ﻟ "يحيى"٥ ساعة افترست
عينيه رؤيا لها من هؤلاء فم
لو يُقبض النور بالأيدي لسوَّره
دون الورى … وَلْتَعُمَّ العالم الظلم
ريان عطشان لا يروى، بلا فرحٍ
جذلان، بادٍ عليه الجوع والبشم
كأنه — وهو ماضٍ في غوايته
من نفسه اقتص، فهو الماء والحُمم
تفجر الضحك المسلوب من رئةٍ
منخوبةٍ بعد أخرى هدها السقم
عن ضحكةٍ أطلقوها فهي صاعقةٌ
أصابهم والورى من رجعها صمم
واستنزفوا متعة الأحياء ما دفعوا
عنها، ولا غارمًا ما استنزفوا رحموا
ثم استزادوا فإن لم يذهبوا ديةً
أو يقصروا عن طماحٍ يرجح العدم!

(٣)
حقائق كالخيال ٦

ماذا تريد العيون السود من رجلٍ
قد حاش زهر الخطايا حين لاقاها
زهرًا على جسمي المحموم أقطفه
في باقةٍ من جراحٍ بِتُّ أصلاها
هذا الربيع الذي تُهدي شقائقه
ريح المنايا إلى قلبي برياها
أزهار تمُّوز٧ ما أرعى أسلمه
في عتمة العالم السفلي إياها؟
أم صل حواء بالتفاح كافأني
وهو الذي أمسِ بالتفاح أغواها؟
ماذا تريد العيون السود؟ إنَّ لها
ما لست أنساه منها حين أنساها
ما بالهنَّ استعضْنَ البوم أوعيةً
عن أوجه الغيد … حتى ضاع معناها؟
أين المناقير من لعسٍ مراشفها
ربي؟ وأين ابتسام كان يغشاها
من هذه الخربة الظلماء محدقة
بي أعين البوم من أجداث موتاها؟
قفراءُ من غير ثَكْلَى شَفَّ مئزرها
عن وهْجِ فانوسها الكابي وأخفاها
تسعى كما اصطادَ في ليلٍ يراعته٨
طفلٌ، وطارت وقد ألوى جناحاها
محنيَّة تتقرى كل شاهدةٍ
من كل قبرٍ، كما لو كان طفلاها
في كل قبرٍ يذوقان الردى ديةً
عمن يؤاوي وعن أحياء دنياها
نادتهما فانبرى يزقو لصيحتها
من حيث ردَّ الصدى، بومٌ وناداها:
"أماه إنا هنا ريحٌ بنا عصفت
لم ندر أين انتهينا بعد لقياها."
وانشق من خلفها قبرٌ ليبلعها
واحتازها واشرأبَّت منه كفاها
يختصُّ فانوسها التمتام بينهما
والريح خرساء تعبى غير "ها … ها … ها"
***

وَيْلُمِّ سازاك٩ كيف اندك حائطه
حتى تعرَّى لي السهل الذي حجبا؟
سهلٌ يكنُّ الصلال الرقط، أجهضه
عادٍ من المحْل حتى يفزع العطبا
وانبحَّت التربة العجفاء من عطش
عن أشدُق فاغراتٍ تنبح السحبا
والشمس كالأطلس١٠ المسعور تنهشه
والريح تُصليه من تَنُّورِهَا لهبا
الريح؟ لا، ليست الريح التي ركضت
بيضاء سوداء رقطاء القفا عجبا
عنقاء١١ في مسعر الجوزاء أعينها
والصخر يرفضُّ من أظلافها شهبا
تلك الزرافات١٢ في السهل العقيم لها
مرعى روى من سرابٍ، ينبت السغبا
ما روَّعتها سوى ضوضاء خشخشة
في كفِّ أبرص يعدو خلفها خببا
تخفيه عنها ضماداتٌ، ويظهره
ما نَزَّ من قيحه الدامي وما شخبا
نادى، وكفَّاه تختضَّان: "وا حربا!"
فاستعبر العاصف المصدور: "وا حربا!"
"ماء اسْقِ يا ماء …" تلهاثٌ مقاطعه
منزوعة من لسان يشبه الخشَبا
حتى استجاب السحاب الجون فانعقدت
في الجو حباته الغبراء فاحتجبا
وانهلَّ لا عن ندى صافٍ ولا مطر
بل عن دم، من ثُدِيٍّ مُزِّقَت حلبا
أو عن مشاش من الأحداق فقَّأها
سيخٌ لجنكيز١٣ دامٍ ينفث اللهبا
"ماء، اسق يا ماء …" والغيث الرهيب كُلًى
مفرية سحَّت الآجال والكربَا
لم يبقَ من مرتوٍ أو ظامئ، بفمٍ
أو دون … إلا ومن ماء الردى شربا
***

ويلٌ لسازاك! ماذا ينتوي بدمي
من نيةٍ فهو يستصفي ويمتار؟
تلك الزجاجات أشلاء مجزأة
مني، دمي مختزٍ فيهن موَّار!
لم تثن سازاك عن شحذٍ لمُديته
آهات مرضى، ولا ألهاه زوار
إني لدارٍ باني حين يشرعها
رانٍ إليها، فملدوغٌ، فمُنهار
هل تبتغي شفرتاها غير آنيةٍ
فيها دمي راجفٌ، والداء والعار؟
ما كنت يومًا ولا المرضى سوى عَرضٍ
في عين سازاك، يُجبى منه إيجار
ستٌّ وعشرون أعدادٌ على سررٍ
أما الأصحاء والمرضى فأصفار!
فالرقم "عشرون" لا يسقى سوى لبنٍ
والرقم "عشرٌ" نعاه اليوم محرار
واليوم لم يبقَ ما أعطيه عن مرضٍ
إلا دعائي وقولي: "نعمت الدار!"
فليلق سازاك من يسمى "ثمانية"
غيري، ويستوفِ أجر القبر حفار!




الآراء (0)   

دعمك البسيط يساعدنا على:

- إبقاء الموقع حيّاً
- إبقاء الموقع نظيفاً بلا إعلانات

يمكنك دعمنا بشراء كاسة قهوة لنا من هنا:




غريب على الخليج
( 48.5k | 5 | 17 )
المومس العمياء
( 22.9k | 5 | 9 )
حفّار القبور
( 18.7k | 5 | 13 )
رحل النهار
( 13.5k | 0 | 1 )
سفر أيوب
( 11.2k | 5 | 8 )
أحبيني …!
( 8k | 5 | 11 )
يا غربة الروح
( 7.4k | 5 | 4 )
لأني غريب
( 7.1k | 0 | 0 )
في السوق القديم
( 7.1k | 5 | 5 )
في المستشفى
( 6.7k | 0 | 0 )
النهر والموت
( 6.5k | 0 | 0 )
الوصية
( 6.3k | 0 | 3 )
جيكور والمدينة
( 6.3k | 0 | 1 )
دار جدي
( 6.2k | 4 | 0 )
أنشودة المطر
( 5.6k | 5 | 7 )
وصية من محتضر
( 5.4k | 5 | 1 )
سربروس في بابل
( 5.3k | 0 | 1 )
هل كان حُبًّا؟
( 5.3k | 0 | 12 )
إقبال والليل
( 5.2k | 0 | 1 )
مرحى غيلان
( 5.1k | 4 | 3 )
اللقاء الأخير
( 5.1k | 0 | 1 )
خذيني
( 5.1k | 5 | 10 )
الأسلحة والأطفال
( 4.8k | 0 | 0 )
المخبر
( 4.6k | 5 | 1 )
مدينة بلا مطر
( 4.5k | 0 | 2 )
مدينة السندباد
( 4.4k | 5 | 1 )
أساطير
( 4.4k | 0 | 0 )
في الليل
( 4.1k | 0 | 0 )
قافلة الضياع
( 4.1k | 0 | 3 )
ديوان شعر
( 4.1k | 0 | 0 )
أغنية في شهر آب
( 4.1k | 0 | 0 )
نداء الموت
( 4.1k | 5 | 1 )
سوف أمضي
( 3.9k | 0 | 1 )
قصيدة إلى العراق الثائر
( 3.9k | 5 | 0 )
إلى جميلة بو حيرد
( 3.8k | 5 | 1 )
ستار
( 3.8k | 0 | 0 )
رسالة من مقبرة
( 3.8k | 5 | 2 )
أهواء
( 3.7k | 0 | 4 )
عرس في القرية
( 3.7k | 0 | 0 )
لا تزيديه لوعة
( 3.6k | 0 | 3 )
منزل الأقنان
( 3.5k | 0 | 0 )
شناشيل ابنة الجلبي
( 3.3k | 0 | 2 )
الباب تقرعه الرياح
( 3.2k | 0 | 0 )
وداع
( 3.2k | 0 | 2 )
المسيح بعد الصلب
( 3.2k | 0 | 1 )
ربيع الجزائر
( 3.2k | 0 | 1 )
عينان زرقاوان
( 3.1k | 5 | 4 )
لن نفترق
( 3k | 0 | 4 )
غارسيا لوركا
( 3k | 0 | 0 )
الأم والطفلة الضائعة
( 2.9k | 0 | 0 )
اتبعيني
( 2.9k | 0 | 0 )
في المغرب العربي
( 2.8k | 5 | 2 )
المعبد الغريق
( 2.7k | 0 | 0 )
إرم ذات العماد
( 2.6k | 5 | 0 )
سراب
( 2.6k | 0 | 0 )
تموز جيكور
( 2.5k | 0 | 0 )
رئة تتمزق
( 2.5k | 5 | 0 )
المبغى
( 2.5k | 0 | 0 )
أمام باب الله
( 2.5k | 5 | 1 )
أقداح وأحلام
( 2.5k | 0 | 1 )
الليلة الأخيرة
( 2.5k | 5 | 2 )
أفياء جيكور
( 2.4k | 0 | 1 )
رؤيا في عام 1956
( 2.4k | 0 | 0 )
هدير البحر والأشواق
( 2.4k | 0 | 0 )
ليلة الوداع
( 2.3k | 0 | 0 )
في انتظار رسالة
( 2.2k | 0 | 0 )
شباك وفيقة (١)
( 2.2k | 0 | 0 )
قارئ الدم
( 2.1k | 4 | 0 )
احتراق
( 2.1k | 0 | 2 )
ليلة انتظار
( 2.1k | 0 | 1 )
نهاية
( 2.1k | 5 | 3 )
قالوا لأيوب
( 2.1k | 0 | 0 )
في ليالي الخريف الحزين
( 2k | 0 | 0 )
سجين
( 2k | 0 | 0 )
جيكور أمي
( 2k | 0 | 0 )
في القرية الظلماء
( 2k | 0 | 0 )
أغنية قديمة
( 1.9k | 0 | 1 )
عكاز في الجحيم
( 1.9k | 0 | 0 )
رسالة
( 1.9k | 0 | 0 )
وغدًا سألقاها
( 1.9k | 0 | 0 )
جيكور شابت
( 1.9k | 0 | 0 )
أم كلثوم والذكرى
( 1.9k | 0 | 2 )
حدائق وفيقة
( 1.8k | 0 | 0 )
كيف لم أحببك؟
( 1.8k | 0 | 1 )
من ليالي السهاد
( 1.7k | 0 | 0 )
جيكور وأشجار المدينة
( 1.7k | 0 | 0 )
الشاهدة
( 1.7k | 0 | 0 )
هوًى واحد
( 1.7k | 5 | 3 )
ثعلب الموت
( 1.6k | 0 | 1 )
ليلى
( 1.6k | 0 | 0 )
شباك وفيقة (٢)
( 1.6k | 0 | 0 )
حنين في روما
( 1.6k | 3 | 0 )
ملال
( 1.5k | 0 | 1 )
أسمعه يبكي
( 1.5k | 0 | 0 )
متى نلتقي؟
( 1.5k | 0 | 0 )
في غابة الظلام
( 1.5k | 0 | 0 )
سهر
( 1.5k | 0 | 1 )
العودة لجيكور
( 1.5k | 0 | 0 )
ها … ها … هوه
( 1.4k | 0 | 0 )
أم البروم
( 1.4k | 0 | 0 )
أغنية بنات الجن
( 1.4k | 0 | 1 )
عبير
( 1.4k | 0 | 0 )
دَرَمْ
( 1.3k | 0 | 0 )
ذكرى لقاء
( 1.3k | 0 | 0 )
مدينة السراب
( 1.3k | 0 | 0 )
المعول الحجري
( 1.3k | 0 | 0 )
نسيم من القبر
( 1.3k | 0 | 0 )
القصيدة والعنقاء
( 1.3k | 0 | 0 )
سلوى
( 1.3k | 0 | 0 )
نهر العذارى
( 1.3k | 0 | 2 )
يا نهر
( 1.2k | 0 | 0 )
ذهبت
( 1.2k | 0 | 0 )
الموعد الثالث
( 1.2k | 0 | 0 )
مرثية جيكور
( 1.2k | 0 | 0 )
نفس وقبر
( 1.2k | 0 | 1 )
لقاء ولقاء
( 1.2k | 0 | 1 )
تعتيم
( 1.2k | 0 | 0 )
خلا البيت
( 1.2k | 0 | 0 )
لوي مكنيس
( 1.2k | 0 | 0 )
هَرِمَ المُغنِّي
( 1.1k | 0 | 0 )
الشاعر الرجيم
( 1.1k | 0 | 0 )
أسير القراصنة
( 1.1k | 0 | 0 )
ابن الشهيد
( 1.1k | 0 | 1 )
حميد
( 1.1k | 0 | 0 )
صياح البط البري
( 1.1k | 0 | 0 )
فرار عام ١٩٥٣
( 1.1k | 0 | 0 )
قصيدة من درم
( 1.1k | 0 | 0 )
نبوءة ورؤيا
( 1k | 0 | 0 )
حامل الخرز الملون
( 1k | 0 | 0 )
الغيمة الغريبة
( 993 | 0 | 0 )
النبوءة الزائفة
( 933 | 0 | 1 )
يقولون تحيا …
( 918 | 0 | 0 )
أظل من بشر
( 910 | 0 | 0 )
في أُخريات الربيع
( 850 | 0 | 0 )
القن والمجرَّة
( 815 | 0 | 0 )