الـــقـطّ الــذي يُـــــراقــبُ العــــالـم - سليم الحاج قاسم | القصيدة.كوم

شاعر وباحث تونسي متخصّص في دراسة الأدب الحديث وتيّار السرياليّة بشكل خاص (1987-)


512 | 0 | 0 | 0



استقرّت في المكانِ كالحقيقةِ.
توسّدت ظهر الأريكة التي أفلتها التاريخ من بين يدي الثورة الفرنسيّة، و ازدانت بما لها من ألقٍ، و ما ينبعث منها من حروبٍ. تكتظّ المراسم من حولها، وجهها الضّوء، و ملمسُ البشرة المحمرّةِ لا يُنبئ سوى بالغيب. لا تتحرّك إلّا قليلا، و لكنّ العالم مجنونٌ من حولها، و العواصفُ تقرعُ نوافذ الدّار.
لها سرّ، أو مجموعة أسرار.
لها نبوءةٌ، سِحرٌ، نبشٌ للقبور، ولادةٌ، وقتٌ، مرفأ، و لها شفتانِ من حبّ الكرز القادم من بلاد المجر. لها ما تعرف، ما عرفت، لها ما تجهلُ، و ما جهلت، و لها البحر و المنبعُ و الدم.

مرحبا أيها الوقت الماكثُ قربها، تزيّنُ وجهك بما يسّاقط من جوهرها العابقِ بالصّور.
مرحبا أيّها الفنجانُ الذي لم يَطعَم ريقها بعدُ، و لم تزيّنه يداها.
مرحبا أيّتها الصدفةُ، تجيئين يدا بيدٍ، أنت و صديقك القدر.

كنّا نحلمُ، و نحن نشاهد قمر الصيف. كنتُ أعرف اسمها دون أن أحيط بجميع جوانبه:
« لا أعرف ما إذا كان هذا جنونا أو حكمة، و لكنّي قلّما ادعيتُ معرفةً كاملة بأيّ شيء، بأيّ حيّ، بأي جسم، بأي شخص، و لا بنفسي حتّى. أخجلُ لو فعلت. أكثر ما يضحكني و يزعجني في آن، هو أن يقول لي أحدهم: "أنا أعرفك"، أو أقسى من ذلك، يقول: "أنا أعرفك جيّدا". إذا كنتُ في كلّ يوم أكتشفني أكثر، و أتعجّب منّي، و لا أفهمني جيّدا، و أشكر لي و فيّ شيئا و أنكر أشياء. إذا كنتُ أحاول قراءة نفسي، و لا أستطيع إدراك اللغة التي بها كُتبت. إذا كنتُ أنظر إليّ في المرآة و أقول لمن هو أمامي: من أنت؟ ثمّ لا يجيب. (لا أحبّ النظر في المرآة كثيرا، أشعر أنّى أرى شخصا آخر غيري دائما، أشعر أنّي لا أشبهني إلّا قليلا في المرآة، أشعر أنّي في عيون الآخرين أصدق و أكثر شبها بي). إذا كنتُ أسائل ذاتي دائما فأقول: من أحبّكِ أنتِ، هل أحبّني أنا ؟ أم أحبّكِ فيّ ؟ أم أحبّني فيك ؟ أم أحبّ كلينا ؟ إذا كنتُ في كلّ لحظةٍ غيري، فكيف تعرفني؟
إذا كانت أمّي، التي هي أمّي، تقول من حينٍ لآخر: يا بني، لا أحد في العائلة كلّها كان كما أنت عليه أبدا، فمن تراك تشبه منّا، و على سلوك من نشأت؟
من أنا لأقول للعصفور الذي في القفص: أنا أعرفك، أدركك جيّدا، أحيط بكلّ جوانبك، أقرأ ذاتك، أحيط بك علما ؟ من أنا لأقول له بأنّي أعرفه. و إن فعلتُ و عرفته بالكامل، ألا أكون عندها قد قتلته؟ وحدها عشتار كانت هكذا، كلّما التقاها شخصٌ قًتل قبل نهاية الملحمة.
من أنا لأقول للماء الناسلِ من الصنبور: أنا أعرفك ؟ في حين أنّه يجري في داخلي و لم يدّعي معرفتي؟ ألا أخجل من الماء ؟
من أنا لأقول لامرأة تختزل المجرّة في هالتها الفيّاضةِ: أنا أعرفكِ؟ حتّى و إن حدّثتها لألف قرنٍ، و سبحتُ في بحيراتها لألف أخرى، و تهت بين أمصارها لألفين، كيف لي أن أعرفها ما لم أقتلها، ما لم أتمرّغ في دمها، ما لم أمزّقها لحما و روحا، ما لم أركلها ركلا، ما لم أقرأ على جثّتها جميع تعاويذ العالم... و حتّى لو فعلت ذلك، أأكون قد عرفتها؟ من أنا لأقول لامرأة أنّي أعرفها؟ »
كنت أعرف اسمها دون أن أحيط بكلّه، أعرف منطوقه و معناه، دون أن أدرك سرّه، أعرف حروفه و مخارجها دون أن أدرك كنهه، أعرفه دون أن أدرك علاقته بها. من أجلِ شيء ما في داخلي، شيء ما - أخجل أن أقول بأنّي أعرفه أيضا – من أجل ما يُشبه التّمرّد على الواقع و الواقعيّ، قرّرتُ أن أسمّيها: " القطّ الذي يراقب العالم ".
عندما يتمدّد القط على بطنه، شبعانا، لا يحدث من حوله شيء، لا ينقصه سوى التاريخ الذي نسيه عمدا، و لا يريد أن يتذكّره، عندها، عندما يكون القطّ مكتملا في الحاضر، مستجمعا لكلّ كينونته، بعيدا عن أيّ حيّ غيره، هكذا وسط الجمادات... عندما يكون القطّ كذلك، يبدأ في التأمّل.
يرفع بصره إلى السّماء و لعلّه لا يبلغها، و بالرغم من ذلك، يبدو لي أنّه يرى العالم كلّه من فناء البيت، يرى الكون، يرى النجوم، يرى الكواكب من تحت غلافها الجوّي، يكشف سرّ الرقعة الحمراء في المشترى، و يتمشّى على أحد أقمار زحل.
هدوؤه ما يوحي لي بذلك، عدم اكتراثه بأيّ شيء، بأي حدث، بأية جريمة، و بأيّة حياة غير حياته. عدم متابعته لشريط الأنباء في المساء، و لا لما يحدث من حوله في القريب هما ما يجعلاني أراه و هو يتخطّى تفاهة واقعه نحو الأعمق، و بما أنّي لا أرى أكثر عمقا و غموضا من دهاليز الفضاء، خُيّل لي أنّه يشاهد النجوم و يغوصُ فيها في غفلة من جميع قوانين الفيزياء.
هكذا جلست في الأريكة كالحقيقة. جلست مثل كلّ هذه التساؤلات، مثل كلّ هذه الإمكانات، و مثل كلّ هذه الأجوبة.
كان الوقت ليلا، و كانت القصيدةُ أنثى.





الآراء (0)   


الموقع مهدد بالإغلاق نظراً لعجز الدعم المادي عن تغطية تكاليف الموقع.

يمكنك دعمنا ولو بمبلغ بسيط لإبقاء الموقع حياً.