أغنية البجع - ممدوح عدوان | القصيدة.كوم

شاعر وروائي ومترجم ومسرحي وناقد وكاتب تليفزيوني سوري، اهتم شعره بالقضايا العربية العامة (1941-2004)


1653 | 0 | 0 | 0



أغنّي للهوى القتَّال أغنية
على طلل عفا وحطامْ
أغنّي كي أنقّب في بقايا الصمت
عن أشلاء مجزرة ٍ
يغطِّيها اخضرارُ كلامْ
وها إنّي عثرت الآنْ
على شيء سأفعله بلا استئذانْ
أموت..
لكي أفاجئ راحة الموتى
وأحرم قاتلي من متعة التصويب
نحو دريئة القلب
الذي لم يعرف الإذعانْ
سأحرم ظالمي من جعل عمري
مرتعاً لسهام أحقادٍ
وأرضاً أُجبرتْ أن تكتم البركانْ
أموت، وقد نزفتُ مخاوفي
لم يبق منّي غير جلد فارغٍ
قد صار كيساً فيه بعض عظامْ
فصائغ يأسيَ المقرور فرَّغني من الأحلام
خذوا جسدي
خذوا جسدي الذي أضنيته
أهملته ونسيته
حتى تحوَّل صرَّة مهروءةً
صارت إلى عبءٍ
خذوا هذه النفاية
لم تكن إلَّا نباتاً شبَّ في دُمَنٍ
وكانت مرَّةً وطناً
وإني أترك الثدي المعبَّأ بالمرارة
معلناً صوماً وعمر فطامْ
سئمتُ نجاة روحي
والخراب يلفُّني أملاً
سئمت براءتي من هول هذا الجرم
صرت أغصّ بالماء
الذي يطفو عليه الذلّ
إن حياد سجني مفعم بالذنب والغثيانْ
أموت..
أكيدكم علناً
فلا أصفرُّ من خوفٍ
ولا أرِدُ التقيَّة
كي أغنِّي مرغماً في مأتم الأوطانْ
أغنّي الآن أغنيتي:
سلاماً أصدقائي قاتليَّ
تمرَّغوا في نُعميات الذلّ
كي تطغى على طلبي
سلاماً عتمة الآفاقْ
سلاماً إنني أسري بغير براقْ
سأسرق ضوءهم.. وأغيب
كي يتذكَّروا، إنْ جدَّ جدُّهمُ،
بأنِّي كنت بدرَهمُ
وأنَّ نهايتي موتٌ لهم وظلامْ
سلاماً يا نهايتنا
تعالي واحضنيني
دفَّئيني من تسلُّط غربة في الرُّوح
وهْي تجفُّ كالحطبِ
أعينيني لأهرب من حياة،
فُصِّلتْ لي في غيابي،
صارخاً:
فلتشهد اللَّهم لا عيني رأت شيئاً ولا أذني
أكون إذاً فِراشاً خارجاً من جثَّتي النتنة
سأبدأ من صليبي؛
قد تطول بدايتي
وتمرُّ أمِّي لا تردّ علي فضل ردائها
ولا تومي: ترَّجل أيها الفارسْ
ودربي كان أوَّله الصليب
فما الذي أرجوه خاتمةً
وها أنذا أُطلُّ اليوم في صمتٍ
وحيداً فوق أخشاب الصليبِ
فلا أثير الرَّيْبْ
وأبصر ما خشيت وما عرفت كعالمٍ بالغيبْ:
رجالاً يهرمون بلا سنين
وعارهم قد حطَّ مرتاحاً محلَّ الشيبْ
وليس لديهمُ رمقٌ
يذكِّرهم بما في عمرهم من عيبْ
سأخرج من ظلام الصمت، أفضح عالم الأسواق
أكشف لعبة كبرى
أقول، إذا استطعت،
بيأسكم بعتم.. ولكن لا أبيع
فورَّثوا اليأس المساوم وارثاً غيري
أقول لعالم يبدو من الزنزانةِ:
اسمعني
ولا تسمع فحيح اليأسِ
هم صنعوا لنا يأساً
لكي يضحي لهم ستراً
وكي يضحي لنا عذراً
وهم صنعوه كي يسترسلوا في اليأس
ثم يجود جلَّادٌ، يجمِّل ذلَّنا،
ليصير زيف كلامهم لقتيلنا قبرا
وينسينا دماء كُليبْ
سأنزل عن صليبي كي أصارحكم:
أريد كليب
وثأر كليبَ لا يخبو مع الأيامِ
بل يتعتَّق الثأرُ
أريد كليبْ
ومعجزة بمعجزةٍ
فليس دم البسوس الآن أقدس من دمانا
ليس ثأر النوق أشرف من دمي
وكما تبنَّوا حلمهم وأتوا إليَّ به
سأحضن حلمنا، وكما أرومُ
سأُتعب الدنيا
أرادوها المعاجز؛ فلتكن
طلبوا الذي يوماً تبدَّى مستحيلاً
ثم صار لهم:
فإمَّا ناقةً مذبوحةً وتقومُ
أو حُضُنٌ تعبِّئه النجومُ
أوِ المقدس،
آه يا ظهري وآه أخي،
ببحر دمٍ يعومُ
تحقَّقت أحلامهم
أبناء عمِّي حقَّقوها
ثم عاد أخي ببحر دماه...
أية سكرة تكفي لمحو رؤاه
كيف أرى دموعاً تستحمُّ بها اليمامة
كيف أهرب من دمي المحرور
أية غُلمةٍ ستدومُ
من يصحو إذا سكرت من الحزن الكرومُ
أنا أريد أخي
وأبناء العمومة
من يقولون انتصح
وافهم
ولا تطلب لدينا مستحيلاً محرجاً
وأخي يجندله ابن عمي
ثم ينصحني الجميع بأن ثأري المستحيلُ..
أنا أريد أخي
أخي وأريده حيَّاً
أخي وأريده منكم
وليس لديَّ تبريرُ
سوى أني أريد أخي
سوى أنِّي أنا الزيرُ
أنا المحراث والنيرُ
وثأري قائم أبداً
فثأري عمرُه أبدُ
وإن لم أستردَّ كليبَ
عمري كلّه زبدُ
ولست بخائف مما يجيء غداً
لأنَّ غدي هو الآنا
هو الآتي الذي كانا
أخي.. وأريده:
من بسمة العينين
حتى نبضة الجرح المفاجئ في استقامة ظهره
من مفرق الشعر الوسيم
إلى السقوط مجندلاً فوق الرمال
من الإباء على الجبين
إلى خطاه المثقلات بعزِّه
وأريده بالعنفوان الصعب في صمت المجالس
بالمهابة عند تدليل الصغار
أريده كي يهدأ الدم في تدفُّقه
من الرجل الذي لم تفهموا ما يعتري بدنه
أنا البحَّار جاء إلى صحاراكم
وقد أحرقتمُ سفنه
أتى ليرى لديكم عمره
لكنَّكم أهدرتمُ زمنه
يسير بعريه علناً
لأنكمُ طمعتم بالفتات
فبعتم كفنه
فهذا ليس عمراً يرتديه
وهذه الأحوال لن يُرضي بها وطنَه
ولن يَرضى الإقامة في فراغ من كلام
بعدما أفرغتمُ مدنه
وكم عمراً لديَّ لكي أسامحكم
وأنسى أربعين سنه
وأيَّة أربعين سنه
مضت لم تزرعوا في القلب
غير دماملٍ سوداء محتقنه
وباسمكمُ تقول: كفى
إذا جنحوا إلى سلمٍ سنجنح
كلُّ ميتٍ يستردُّ حياته
أو يرتدي كفناً من النسيانْ
ليخفي تحته عَفَنه
إذا جنحوا
إذاً هذا زمان الجانحين
وكلُّ ما عشنا جنوحٌ
أربعين سنه؟
وأيَّة أربعين سنه؟
قبلت بها عذابي واتَّساخ دمي
وسرقة ضوء عمري
والمجازر والجنائز والجوائز
حاجة الأطفال
والتشريد والترحال
كذب القادة
الطغيان
لا...
يا أيُّها الهاوي الذي يتهجَّأ الإذلال
بلاد الله ليست من متاع كي تباع
وإنَّها مجبولة بدمائنا
قبل التقايض حولها
أرجعْ إليَّ دمي
وأرجع لي شباباً ضاع منِّي أربعين سنه.
ويبقى بيننا دَيْن عريق ليس في الدنيا له ثمنُ:
ستبقى بيننا المدنُ
هي المدن التي جاءت إلى أهلي
وصارت من أريج البيت
ردَّدها الكبار حكايةَ
ذابت نشيداً طازجاً
وتغلغلت لتطرِّز الأحلام
نامت في سرير الطفل
تحضنه
يقبِّلها
تقبِّله بكلِّ حنان
وتمنحه رنين اسمٍ
فيصبح بيتنا في السرِّ خارطة
به أولادنا مدنُ
هنا حيفا.. هنا يافا.. هنا بيسانْ
فكيف أقول للمدن التي صارت بنيَّ:
تراجعي.. لم يبق في دنياي بعدُ مكان
وأخرج من هموم البيت والمذياع
ألقاها معلَّقة بأسماء الشوارع
والمدارس والحدائق والمتاجر
كلُّ ما في عالمي أسماء
وأسماء الذين تجندلوا من أجل أن تبقى لنا مدنٌ
معلَّقة بأجراسٍ من الذكرى
تحنُّ لنا وتعطينا المواعيدا
ومن ذا يرجع الأمواتَ
والأصواتُ وسط جنائز تعلو زغاريدا
ومن سيعيد لي ذاك التجمُّل
كي أرى ذُلَّ الهزائم غضبةً
ومجازري عيدا
أغنِّي الآن أغنيتي
وأحمل مرهقاً غضبي
تعالي يا يمامة واحفظي نسبي
تعالي طوِّقي قلبي بحلمك
قبل أن يذوي ويغدر بي
كفى بالموت نأياً يا يمامة فاصمدي
لا تجزعي
كل الأنام رأوا دمائي
وهْي تُعجن لي رغيفاً طازجاً
وطحينه تعبي
فقولي للحواشي من بنات العهر:
أرض الله حضنٌ للمهلهل
أنت مُحْصنةٌ بما حُمِّلتِ من ثأر الأباة
ولست رزق سبي
وصيحي بينهم بجبينك المرفوع
عُبّاداً لشمس غرّبت:
زين الشباب أبي
خفيفاً مرَّ.. لم يثقله ذنب
وانتقى موتاً سيحسده عليه نبي
وإذ يمضي قتيلاً لم يُمتَّع بالشباب
شبابه يبقى ويطلع بي
غداً سيجيء أبنائي
أعلِّمهم:
يسمون الذراري مثل أسماء المدائن
بينهم يافا وحيفا.. بينهم بيسان
ومن موت الغريب وغصَّة الأيتام
نبدأ حقبة أخرى
تليق بجذرنا العربي
أموت إذاً
وآخذ عمريَ المهروء
والمدن اليتيمة والجراح
ولا أصالح واحداً فيكم
أموت إذاً
لأبقى بينكم خجلاً يعرِّيكم
إذا ذُكرت مدائنكم
لتسعوا لو تُشقُّ الأرض
تبلعكم وتخفيكم
تدارون العيون السائلات
بتهمة راحت تسمِّيكم
أموت إذاً
وأترككم بلا ستر يغطِّيكم
بلا أمل ولا سلوى تعزِّيكم
عراةً.. لا مطامح لا مدائن
لا إباء ولا كرامة
لا متاع لرحلة الدنيا ولا دينا
فروحوا الآن
تسلَّوا عن مواجعيَ التي انفجرت
لتدميكم
وقولوا: عاشقٌ حنَّا
وقولوا: شاعرٌ جُنَّا
ولن تنسوا بأنا دائماً كنَّا
نغنِّي في أماسينا
ونبكي في مآسينا
فلسطينا....





الآراء (0)   


الموقع مهدد بالإغلاق نظراً لعجز الدعم المادي عن تغطية تكاليف الموقع.

يمكنك دعمنا ولو بمبلغ بسيط لإبقاء الموقع حياً.