لم يكن شتاءً
لم يكن بالربيع أو الخريف
لم يكن فجراً
لم يكن عصراً
لم يكن بالغروب، ولا وضَح الصباح..
كانت ظهيرةً تموزية
والشمس نارٌ تتلظى
تكوي الطريقَ شبراً فشبرا..
ذاك الطريق الأسود
مثل فم بركان
أو كنهرٍ في الجحيم
يصبُّ شلاّلُه في قلبِ بحيرةٍ
من ذهبٍ أسود
وكفاحٍ قرمزي
وأحلام خضراء..
آهٍ .. هناك
في فم تلك البحيرة التي
تغلي من قهر
ثمةَ عمودٌ قصير
كقامةِ سلطانٍ قميء
يحمل كلمتين سوداوين
سلَّهما من معجم الحقد والفاشية :
" قف للتفتيش "
أمام ذاك العمود
خمساً وعشرين ساعةً في اليوم
ثمة جوقةٌ من كلاب..
كلابٌ إذا ما عوت
تتوقف القوافل..
أمام ذاك العمود
خمساً وعشرين ساعةً في اليوم
ثمة جوقةٌ من كلاب..
كلابٌ إذا ما عوت
لن تمرَّ حفنةٌ من سكّر أو شاي
لن تمر قبضةٌ من سمنةٍ أو دقيق
أمام ذاك العمود
خمساً وعشرين ساعةً في اليوم
ثمة جوقةٌ من كلاب..
كلابٌ إذا ما عوت
يترجل كل من لا يحمل
لطخة سوداء فوق الجبين
...
أمام ذاك العمود .. عوت الكلاب
وترجل راكبان
راكبان بجبينٍ أبلق
أسلما العنان وترجَّلا..
لا مِن حصانٍ كميت
لا من فرسٍ كحلاء
بل من عربة "جيب"
الطين والوحل والحمل الثقيل
برى الظهرين .. أحناهما
والثلج والمطر والشمس
أنهك منهما العظام
آهٍ .. من تلك "الجيب"
ترجل الشقيقان و...
أنتَ أولاً .. يا أخي الكبير !
كان شتلةَ حورٍ جبلية
ثماني عشرة ربيعا أخضر
لوحت شموسها
ذلك الوجه المشرق المليح
كل ما فوق جلده :
طاقيةٌ وقميصٌ وسروالٌ مرقع
ما من بندقية "برنو" على كتفه
ما من صَفَّي رصاص خلف ظهره
ما من خنجر في حزامه
ما من "رمانة" تحت قميصه
لا .. لا..
في إصبع يده اليمنى
حلقةٌ رفيعة من ذهب
في قلبه
جميلةٌ سمراء
وحديقة خضراء
وصفٌّ من الجبال الثلجية..
...
وعوت الكلاب
فجأة ..
لسعت صدغه فوهة مسدس
وعوت الكلاب
والأعين السود .. شبَّ فيها الخوف
لكنها لم تلذ بالفرار
وعوت الكلاب
"قل أنا بريء من الجبال
قل أنا بريء من الثلج
قل بارزاني (2) قد انهزم
قل فليعش سلطانُ بغداد!! "
...
صارت الشمس صفيحةً سوداء
ولاذت بغيمةٍ أشد سواداً
صار التراب بركاناً .. زلزالاً
رقصت فوق رأسه الوحوش والسعالي
وتلك الحلقة الذهبية الرفيعة
بترت إصبعه وفرت
وتلك الجميلة السمراء
تلك العروس التي تدخل غرفة عرسها
طرحت إزارها في التراب
وسودت زينة وجهها
والحديقة الخضراء
شب فيها اللهيب..
ولاذ المسافر بعَرض الجبال
تلك الجبال التي
لم تزل شماء
ولم يزل الثلج .. والدم السخين
يلون منها القمم .. بالحمرة والبياض
ولم تزل راسخات..
الخوف ولّى
صار المسافر حنجرةً ليس غير
وصارت الحنجرة ناراً تتقد
وصاحت :
"لو تنكر الفجر للشمس..
سيجثم كالليل
لو أنكر البحر ماءه
لن يعود غير بعضِ الزَبَد
لو أنكر الثلج بياضه
يستحيلُ سخاماً
ولو تنكرتُ للجبال
للثلج وبارزاني
لو أحنيت رأسي لسلطان بغداد
ليشد فيه اللجام
سأظل حتى موتي
عبداً خَنوعاً
لا .. لا..
فلتعش الجبال
فليعش الثلج .. وبارزاني
وليمت سلطانُ بغداد ! "
...
وهاجت الكلاب
وتطاير الشرر
من ظمئها للدماء
...
وأشبع المسافر –شتلة الحور الفارعة-
ناظريه من مشهد الثلج والجبال
أشبع صدره من نسيم المصائف
أشبع قلبه بالشهادة
وضحك مليّاً .. من الموت
ثم استدار ...
وأرسلت عيون الثلج
سيلاً من دموع
وأحنى سيد الجبال كلها
رأسه قَدرَ قامةٍ
***
لم يكن شتاءً
لم يكن بالربيع أو الخريف
لم يكن فجراً
لم يكن عصراً
لم يكن بالغروب، ولا وضَح الصباح..
كانت ظهيرةً تموزية
وفي فم تلك البحيرة
من الذهبٍ الأسود
والكفاح القرمزي
والأحلام الخضراء..
ثمةَ عمودٌ
عمود قصير
كحظّ سلطانٍ قميء
يحمل كلمتين
سلهما من معجم الفاشية والحقد
"قف للتفتيش!"
قبالة ذاك العمود .. في تلك الظهيرة
شهدت أعين النجوم
ونادت الشمس للصلاة
وسجدوا جميعا
للدم الأحمر
قبالة ذاك العمود .. في تلك الظهيرة
شهدت أعين النجوم
وإذا ذلك الإسفلت الأسود
يزهر فجأةً
يصير جنينةً .. روضةً زاهية !
وانحنى القمر للقطاف
وملأ أحضانه بالورود !
...
وعوت الكلاب
عوت من جديد
ومدت مخالبها
مخالبها المنقوعةٌ بالدماء
للمسافر الصغير
للبرعم الغافي
المغمور بالندى
للريحانة الغضة الطالعة
رهبة الجريمة العظيمة
صمّتهُ وأخرسته
ما من بندقية "برنو" على كتفه
ما من صَفَّي رصاص خلف ظهره
ما من خنجر في حزامه
ما من "رمانة" تحت قميصه
لم ينبت له شاربان
لم يهب قلبه لسمراء
لم يضع في إصبعه خاتماً من ذهب
لا .. لا..
كل زينته.. كل ثيابه.. كل سلاحه
حجاب أخضر تحت القميص
وحفنةً من بذور زهرة الشمس
في جيبه الأيسر
وعشر حبات من حلوى
عشرٌ كسنيّ عمره
في جيبه الأيمن!
لم يعتلِ الجبالَ يوماً
لم يذق ثلوج القمم
لم يرَ الكهوف والخنادق
لم يكلم مقاتلَ بيشمركةٍ يوماً
لم يعرف بارزاني
ولم يدرِ من يكونُ .. سلطانً بغداد!
لكن قلبه كان يتلو الشهادة
وتلك الكلمات التي كانت "الكلاب"
تأمره كي يعيدها
كانت كفراً عظيماً
لو تلفظ به
لن يرى الجنة يوماً !
...
المسافر الصغير
ذلك الذي أخرسته الجريمة
فجأةً .. صار بلبلاً
وفي قلب تلك الروضة الزاهية
صدح بأغنيةِ أخيه
" فلتعش الجبال
فليعش الثلج .. وبارزاني
وليمت سلطانُ بغداد ! "
(1)العنوان في الأصل بالعربية والقصيدة قائمة على واقعة حقيقية حدثت أوائل الستينات من القرن الماضي.
(2)الملا مصطفي البارزاني (1903-1979) أبرز قادة الحركة التحررية الكردية في القرن العشرين.